في الوقت الذي هيمن نقاش « فرنسة التعليم » على مضامين مشروع القانون الإطار رقم 51.17، المتعلق بالتربية والتكوين وركز الإعلام والفاعلون في المجال على المادتين 2 و31 المرتبطتين استعمال اللغات الأجنبية؛ والقصد هنا اللغة الفرنسية، واستعمالها في تعليم المواد العلمية والتقنية، خفت صدى الجدل القوي والواسع حول مجانية التعليم عبر تجاهل المادتين 46 و48 من نفس القانون واللتين ستمهدان الطريق أمام الدولة بشكل تدريجي لإلغاء مجانية التعليم الثانوي التأهيلي والتعليم العالي، الأمر الذي يمثل خطرا يهدد مبدأ تكافؤ الفرص، وإلى مازالت الأصوات الرافضة لهذا القرار « الملغوم » على ضعف صداها تتصاعد، ومنذ أولى شرارات الاحتجاج ضد الخطوة سارع رئيس الحكومة سعد الدين العثماني الخطى لامتصاص الغضب الشعبي وإيجاد صيغة مناسبة تقنع بعض الفرقاء السياسيين والنقابات الداعين إلى التراجع عنها باعتبارها مسا خطيرا بحق أساسي من حقوق المغاربة. من مداخل الحلول التي اهتدى إليها العثماني ومن معه، التدقيق في تحديد معايير « الفئات الميسورة » وجعل سقف أجرها الشهري يبلغ مبلغا يوهم بانتفاء علة استثنائها ويوحي بقدرتها على أداء رسوم تسجيل أولادها في التعليم الثانوي والجامعي. خطوة التخلي عن مجانية التعليم في المستويين المذكورين، من شأنها تكبيد الأسر أعباء إضافية، على اعتبار أن التعليم العمومي يستقبل 80% من المتعلمين والطلبة المغاربة، حسب نتائج البحث الوطني الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط لتصور أهداف الأسر المغربية للتنمية المستدامة، تقرير المندوبية لاحظ أن إنفاق الأسر على الغذاء تراجع، إذ أضحت الأسر تولي اهتماماً أكثر بالتعليم والثقافة، فقد باتت تنفق نسبة %25 من دخلها من أجل تعليم أولادها، في مقابل ذلك، أنفقت 10% من الأسر الغنية ما يفوق 24 مرة ما بذلته 10% من الأسر الفقيرة على التعليم. ورغم أن قطاع التعليم كلف الدولة أكثر من 450 مليون دولار، أي ما يزيد عن سدس الميزانية الإجمالية، إذ يشكل العاملون في وزارة التربية الوطنية والتكوين %54.09 من إجمالي موظفي الدولة، فجودة التعليم لم ترتق حتى إلى المتوسط، كما تظهر كافة التقارير الدولية المعنية بقياس جودة التعليم، ومن أواخرها، تقرير منظمة التعاون الاقتصادي، الذي صنف المغربَ في المرتبة 73 من أصل 76 بلدًا شملتهم الدراسة من حيث جودة المدارس، محتلًا بذلك المرتبة الأخيرة حتى بين الدول العربية. في ظل هذا الفشل المضطرد، اتجهت الأسر مرغمة صوب القطاع الخاص، سعيا وراء تعليم أجود، فقفزت بذلك نسبة الأسر التي تدرس أولادها في المدارس الخاصة، من %4 سنة 1999 إلى حوالي %15 سنة %2015، وذلك حسب دراسة أمريكية أجراها المركز العالمي للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المؤسسة التي استشرفت وصول النسبة إلى %25 عند حلول سنة 2025. ووسط هذا الإفلاس الذي أحاط المنظومة التعليمية، يرى مهتمون بالشأن التعليمي في المغرب أن الأولى من تضمين مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، مسألة إلغاء مجانية التعليم، كان هو إعادة النظر في المناهج التربوية والمقررات الدراسية وتكوين الأطر وتأهليها، والتركيز على أولويات النهوض بالمدرسة العمومية من خلال الاستفادة من المخططات والتصورات السابقة التي رمت إلى إصلاح القطاع، فلم تؤت أكلها بل ساهمت في تأزيم المشهد وكبدت الدولة خسائر مالية فادحة. الأستاذ الجامعي المهتم بالشأن التربوي التعليمي، جمال بندحمان، يرى أن مناقشة القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، لم تستحضر السياق المغربي في امتداداته الزمنية، و آفاقه المستقبلية، لأنه يؤكد أننا نعيش منذ الاستقلال بين ثنائية حادة هي: الأزمة والإصلاح. ابتدأ ذلك منذ 1957 مع « اللجنة الملكية لإصلاح التعليم » واستمر إلى غاية المخطط الاستعجالي لأن المستعجلات تتدخل في حالة الأزمات، وصولا إلى التدابير ذات الأولوية التي تعني وجود ما يحتاج إلى ترجيح التقديم إيقافا للنزيف، هنا يطرح بندحمان سؤال كيفية تفسير وجود وعي بأهمية الإصلاح منذ الاستقلال والفشل في تحقيقه؟. الجواب حسب الباحث أنه إذا تجاوزنا هذه الملاحظة، وتكلمنا عن السياق الحالي أمكننا التنبيه إلى أن إخراج هذا القانون الإطار تم خارج دائرة أي حوار وطني، وأنه اتسم بنوع من « الهرولة » غير المفهومة، وبناء على ذلك، فإن مضامينه تفرض ضرورة الإشارة إلى : أولا: الوثائق التي أنتجت منذ تسعينيات القرن الماضي لم تكن معيبة في محتواها، بل في إجراءات التنفيذ،فكلها تتحدث عن الجودة والمساواة والإنصاف .المثال الدال هنا يتعلق بالحكامة في مجال التعليم حيث نجد تصورات جيدة، لكن آليات التفعيل بقيت مغيبة. و معنى ذلك أن ما يقدمه القانون الإطار هو ذات الخطاب الذي يتكرر دون تنزيل أو تفعيل؛ ثانيا:هناك غموض كبير في بعض العبارات، وتراجع عن التزامات سابقة. ففي المادة السادسة،مثلا، هناك حديث عن تقاسم المسؤوليات بين الدولة والأسرة وهيئات المجتمع المدني ، والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وغيرهم .. هذا الكلام العام كيف سيفعل؟ علما أنه هو ذاته الوارد في الوثائق السابقة.المثال الثاني، يقدمه المختص في الشأن التعليمي من الباب الثامن الذي يتحدث عن تمويل المنظومة، ففي مجتمع يعرف تزايد نسب الهدر المدرسي، وتآكل منسوب الثقة في المدرسة العمومية، يؤكد بندحمان ضرورة ألا يكون التمويل موضوع مزايدة، أو شكوى، بل ينبغي أن يكون موضوع تضحية واهتمام وتحفيز، مستدركا، أن القانون الإطار يوحي بالتراجع أو على الأقل التفكير فيه من خلال تلك العبارات العامة والحبلى بالإيحاءات. فرغم أن المادة 42 تتحدث عن مواصلة الدولة مجهودها في تعبئة الموارد وتوفير الوسائل اللازمة لتمويل المنظومة، وتنويعها. وتتحدث عن التضامن الوطني والقطاعي؛ فإن المادة 45 تتكلم بصريح العبارة عن تحول تدريجي يتم من خلاله العمل على إقرار رسوم التسجيل بمؤسسات التعليم العالي في مرحلة أولى، وبمؤسسات التعليم الثانوي في مرحلة ثانية، وفق شروط تحدد بنص تنظيمي مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى الدخل والقدرة على الأداء. وهنا ينبغي التنبيه إلى ملاحظتين أساسيتين: الأولى ذات صلة بالمعيارين المعتمدين في إقرار هذا الأداء وهما: معيار الأسر الميسورة، وهذه الأسر كما يجزم بذلك بندحمان، لا تدرس أبناءها في التعليم العمومي أصلا، أي إنه معيار فارغ الدلالة؛ إضافة إلى كونه معيارا غير محدد لأننا لا نعرف بالضبط المقصود بالأسر الميسورة بالمغرب وعددها؛ أما الملاحظة الثانية فتتعلق بمعيار التعليم الإلزامي الذي يكون بدون أداء رسوم التسجيل ،وهو معيار بدون معنى؛ لأن الجميع يعلم أن معظم الأسر تدرس أبناءها في التعليم الخاص اضرارا بحكم ما تعرضت له المؤسسة العمومية من هجوم وتشهير وتشكيك، لذلك نجد اليوم أن عدد مؤسسات الابتدائي الفارغة بمدينة الدار البيضاء مثلا في تزايد. دلالة ما سبق كما يرى المتحدث، تفيد أن الهدف هو إقرار بمبدأ الآداء وفق الصيغة التي جاءت في المشروع، وبعدها يمكن الانتقال إلى مرحلة أخرى؛ لأن الجسد إذا تعود على سخونة القاعة الأولى في الحمام سيتحمل لاحقا القاعات الأكثر سخونة. بعد « الفرنسة »..هل يساهم إلغاء المجانية في تأزيم التعليم بالمغرب؟ Maroc News | .
Comments 0